كارثة أمام ماسبيرو
الجورنالجيبقلم : مصطفى عصام
إذا جلست أمام ماسبيرو على «شاطئ النيل»، وخصوصا بعد ساعات العمل المملة، تستمع الى مقطوعة موسيقية تفضلها، وبهدوء شديد تتابع المنظر وتشرد بذهنك، وفى حين أخر ترى بعينك تلك اللوحة الجميلة التى خلقها الله ووهبها لمصر لتكون مصدر خيرها و البهجة فى نفوس أهلها، وتراقب الأمواج الصغيرة وهى تغير أوضاعها كراقصات البالية أو كعرض عسكرى، وهى تعكس خيوط الشمس المتناثرة عليها فى وقت الغروب مما يضفى على تلك اللوحة جمالا يحمل اللون الذهبى المائل إلى الإحمرار، تتزين بورد النيل مما زادها تألقا و اعطاها بريقا خاصا كـعروس فى ليلة زفافها أو كأنها ملكة فى حفل تتويجها.
و هنا تجد الكارثة حين تستفيق من أحلامك على ما يعتبر تلوث لكل جوانب البيئة بكل المقاييس،حين ترى عينك و تسمع أذنك أشياء و أصوات تضيع جمال اللوحة التى رسمتها و ما بها من حركة جميلة مميزة بألوانها الخلابة ، وأصوات من شدة جمالها يلين لها القلب و تذيبه.
تجد نفسك تسمع أغانى لا تمت للفن بأى صلة قرابة أو حتى من بعيد، كلمات لا معنى لها وضعت على نغمات و ألحان تثير فى النفوس الإشمئزاز و تنزعج منها الآذان و ينفر منها كل ما هو له معنى الجمال و الأصالة، تجد أطفالاً وشبابًا فى مقتبل العشرينيات يركبون الدراجات النارية و تصدر منها هذه الأصوات و الأغانى المزعجة مضاف إليها أصواتهم و هم يرددون ورائها و مضايقة الفتيات و السيدات التى تمر بالمعاكسات بألفاظ بذيئة و التى لا تدل على وجود أى نوع من التربية إضافة إلى العاهرات التى تعرض نفسها للبيع.
و إذا حاولت التجاهل لن تستطيع فتتفاجأ أن «البقية مازالت تأتى»، فتقع عينك على مشهد لا بل كثير من المشاهد والتى أصبحت مألوفة هذه الأيام، أشخاص تتبول و تقضى حاجتها و تلقى بقمامتها فى النيل، مصانع وسفن بمخلفاتها فى مياهه وما يزيد الطين بلة السموم الناتجة عنها ومياه الصرف الصحى ناهيك عن جثث الحيوانات الميتة و فضلات الرحلات النيلية وكأنه لا يصح أن تكون الرحلة رحلة حقيقية دون أن يلطخوا وجه النيل.
و من جهة أخرى الباعة الجائلين على شواطئه و التى يفترشونها و كأنها أملاكهم التى ورثوها عن العائلة و ملقين بقمامتهم عليها منتظرين من يجمعها من خلفهم .
راحت فين أيامك ... أهذا هو النيل الذى نعرفه ... أهذا هو من كان يُحتفل به قديما وقت فيضانه و تعلق له الزينات و الرايات و كأنه عريس فى ليلة زفافه و تُختار فيها أجمل نساء مصر لتكون عروسا له ... أكان هذا الذى لا يروى عطشى إلا شربة ماء منه حينما أرفعها بكفى فتطالعنى خطوط يدى من شدة صفائها ... أهذا هو الشاهد على عشقنا و مشاعرنا ... أهذا الذى جلس على ضفتيه أكبر شعراء عصورهم ليلهمهم بأعذب الكلمات لأشعارهم ... أتذكر حينما قال عنه أمير الشعراء « أحمد شوقى » : "النيــــل نجاشى حليـوة أسمـر .. عجب للونه دهب ومرمر .. أرغوله فى إيده يسبح لسيده .. حياة بلادنــا يارب زيــده .. قالت غرامى فى فلوكة .. وساعة نزهة ع الميه .. لمحت ع البعد حمامة .. رايحه على الميه وجايه .. ووقفت أنادى الفلايكى .. تعالى من فضلك خدنا .. رد الفلايكى بصوت ملايكى .. قال مرحبابكم مرحبتين .. دى ستنا وإنت سيدنا .. جـت الفلوكــة والمــلاح .. و نزلنـا وركبـنا .. حمامه بيضا بفرد جناح .. تودينــا وتجيبنا .. ودارت الألحان والراح .. وسمعنا وشربنا .. هيلا هوب هيلا .. وصلح لى قلوعك ياريس” .
السادة المسئولين .. شعب مصر، أليس تهاونكم هو الذى أودى بنا إلى هذه النتائج الشنيعة التى أوصلتنا لحال يرثى لها أصبحنا نسمع كثيرا فى الآونة الأخيرة عن عدد كبير من حالات التسمم و الوفاة بسبب المياه الملوثة هذا من الجانب الصحى، إذًا فلنأخذ بالأعتبار جانبًا أخر وعلى قدر كبير من الأهمية ألا وهو الجانب الإقتصادى مصدر الدخل الأجنبى والعملة الصعبة أليس النيل موردا سياحيا يقصده الكثير من زوار مصر وحتى من المصريين فتخيلوا معى حجم الكارثة التى تحدث إذا تكرر فى كل مكان و فى كل مرة تجذبهم أنفسهم لمشاهدةو النيل.
من رأيى الشخصى الحلول من أبسط ما يمكن حتى أصغر «عسكرى» يعرفها و يمكنه تنفيذها، فلماذا إذا تتركون كل شئ على هذا الحال، لماذا التهاون فى القوانين والعقوبات، هل للرشوة يد فى هذا، أصبحنا نسمع عنها كثيرا هذه الأيام ونراها بالأدلة المصورة، نريد عودة نيلنا كما كان، لا نريد أن نسأله كلما نظرنا إليه .... «راحت فين أيامك...؟!».