المعركة الخطأ

لا يمكن أن ينكر أحد علي هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات وطنيته، ولا يمكن أن ينزع، حتي الكارهون له صفة "محارب الفساد" عنه.. فما الرسالة التي يتم توجيهها عبر وضعه في دائرة الإتهامات وتشويه السمعة للبلد، والجدية المبالغة في محاكمته، التي لم تحدث مع اللصوص الحقيقيين وأباطرة الفساد، والتي انتهت بحكم ابتدائي يوم الخميس بحبسه سنة مع الشغل وغرامة 20 ألف جنيه؟
ربما اخطأ الرجل في وصف حجم الفساد الذي قدره ب600 مليار جنيه من عام 2012 إلي 2015.. وربما أخطأ في الموائمة السياسية.. وربما تجاوز الخطوط الحمراء لبعض المؤسسات، لكن استهدافه بهذه الطريقة رسالة مفادها :"لا تتحدثوا عن الفساد"، ولا تسيروا عكس التيار، فهل انتهي الفساد في مصر؟
في حديث وزير التموين خالد حنفي مع المحررين البرلمانيين قبل الحكم علي جنينة بساعات قال حرفياً :"نواجه فساد بمليارات الجنيهات".. وهو كلام كان تعليقاً علي الفساد في توريد القمح والصوامع الذي تتقصي حقائقه لجنة برلمانية لم تنته أعمالها بعد.. فهل سنحاسب حنفي علي طريقة جنينة بتهمة "نشر أخبار كاذبة" عن الفساد؟!
التهمة "نشر أخبار كاذبة"، في حد ذاتها، فضفاضة تصلح لمحاكمات للجميع.. وتضع منظومة العدالة في مهب الريح بتهمية التسييس.. فالتهمة قد تستغل ضد الوزراء الذين يصرحون تصريحات "وردية"، تخدع المواطنين، علي شاكلة مئات مليارات الدولارات التي وعدت بها حكومة محلب المصريين عقب مؤتمر شرم الشيخ، ولم يدخل عشرها إلي الآن، أو المبالغة في إيرادات قناة السويس عقب التوسعات بها.. وتطبيقها علي مسؤول دون آخر تعطي سكيناً لضرب العدالة بشائعات "اشمعني" حاكمتم فلاناً ولم تحاكموا علاناً.
في دولة تعلن الحرب علي الفساد، ولا تحقق تقدماً ملحوظاً عليه في الخطوط الأمامية تصبح محاكمة جنينة، اختلفنا أو اتفقنا معه، أحببناه أو كرهناه، اخطأ في التصريحات والمواءمة السياسية أو لم يخطئ، نوعاً من التخلي علي أسلحة المعركة، والتنازل عن أرض الميدان لأعداء الوطن من الفاسدين واللصوص الكبار.
التهمة في حالة جنينة لا تفيد الدولة ولا تحقق مكاسب للوطن.. ومخادع من يري أن جرجرة مسؤول سابق عن محاربة الفساد بأكبر جهاز رقابي في مصر تعطي مناعة ضد نشر الأخبار الكاذبة.. ومن يحب الوطن عليه أن يصارح بأن هذه الخطوة الأولي تفتح الباب علي مصراعيه للشائعات، وتهز ضمير كل من يجلس علي رأس أي مؤسسة رقابية، سينظر دائماً إلي مصير الرجل سواء أكان يمتلك الأدلة والمعلومات أم لا، سيفضل الصمت لأنه ذهباً، وسيؤمن بمقولة "الباب اللي يجيك منه الريح سد واستريح".
لا تعليق علي أحكام القضاء، ولا راد لقضاء الله.. لكن ما أحوجنا في هذه الأوقات للعقل والحكمة، فجنينة ليس شخصاً عادياً، ولا مبالغة عندما نقول أن العالم ينظر لقضيته بمزيج من الشغف والفضول لمعرفة إلي أين تسير مصر؟.. ومن لا يصدق عليه أن يلاحظ دأب الإعلام الدولي ولهاثه للحوار مع الرجل، الذي تحدث مطولاً مع البي بي سي الأسبوع الماضي.
حاكموا جنينة أو اعدموه واهيلوا عليه التراب بالعدل والقانون وإتاحة الفرصة أمامه للدفاع.. فأسهل شئ في اللحظات الفارقة والعصيبة في تاريخ الدول نزع الوطنية وتشويه السمعة والجرجرة إلي المحاكم.. لكن للتاريخ أحكام أخري وللشعوب ذاكرة شفاهية لا تعرف المراسيم الحكومية، ولا تهادن الحكام.