حلمي بكر والدكتور نور أبو حساب... صداقة العمر التي انتصرت على المرض والاتهام


*رحلة وفاء وإنسانية بدأت بالفن، وامتدت إلى رعاية وصمود، وانتهت ببراءة قضائية أعادت الحق لصاحبه
لم يكن المايسترو حلمي بكر مجرد ملحن في سجل الموسيقى العربية، بل كان رمزًا للصدق الفني والإصرار على أن تبقى الموسيقى المصرية نابضة بالحياة. وُلد في حي شبرا الشعبي عام 1937، وبدأ مسيرته معلّمًا للموسيقى، قبل أن تصنع ألحانه لأصوات الكبار مجده وتاريخه، من وردة إلى علي الحجار ومدحت صالح، وصولاً إلى جيلٍ جديد حمل من فنه الروح والطموح.
عُرف حلمي بكر بجرأته وصراحته، لكنه في حياته الخاصة كان إنسانًا حساسًا، يؤمن بأن الفن لا يكتمل إلا بالعلاقات الإنسانية الصافية، وهو ما ظهر جليًا في صداقته النادرة مع الدكتور نور أبو حساب، الطبيب والفنان الذي جمع بين المهنة والموهبة، بين الحِرَفَة والإنسانية.
من لقاء فني إلى عهد إنساني
بدأت القصة حين التقى حلمي بكر بالشاب نور أبو حساب خلال تصوير برنامج “ستار ميكر”، وقدّمه له الطبيب والصديق المشترك الدكتور والموسيقار الكبير ملك الجيتار، أحمد الجبالي. كان نور وقتها طالبًا شغوفًا بالموسيقى، يعزف الجيتار ويغني الأغاني الغربية، فأُعجب به حلمي بكر، ورأى فيه مشروع فنان متكامل.
مرت الأعوام، وأصبح نور طبيب أسنان ناجحًا وفنانًا شاملاً، والتقى من جديد بأستاذه الكبير، فتوثقت بينهما علاقة إنسانية عميقة، أساسها الاحترام والتقدير.
تحولت الصداقة إلى تعاون حقيقي حين أسّسا معًا “ورشة حلمي بكر الفنية لصناعة النجوم”، بهدف دعم الشباب الموهوبين وتعليمهم أصول الفن الراقي. كما شاركا في برامج فنية ومهرجانات داخل مصر وخارجها، وظهر الانسجام بينهما واضحًا أمام الجميع — الطبيب الذي يرمم الابتسامات، والفنان الذي يرمم الألحان.
حين اشتد المرض... ظل الصديق بجانبه
في السنوات الأخيرة من حياة المايسترو، حين داهمه المرض وأثقلت عليه الأيام، كان الدكتور نور أبو حساب هو السند الأقرب.
لم يتعامل معه كطبيب فحسب، بل كأخ وابنٍ روحي، يتابع حالته لحظة بلحظة، يشرف على تمريضه بنفسه، ويقف حائلًا دون أي فوضى أو إهمال في المستشفى.
يقول المقربون: “كان نور يحرس حلمي بكر بعينه وقلبه، لا ينام حتى يطمئن على نبضه.”
وحين تحسنت حالته، كان الدكتور نور أول من ساعده على استعادة طاقته، ليشاركاه بعد ذلك في برنامج “حلم النجوم” — عمل وثائقي من 21 حلقة، وثّقا فيه مشوار “الأب الروحي للفن” كما سمّاه نور.
الزوجة الأخيرة... ودوامة الاتهامات
لكن ما إن استعاد حلمي بكر بعض عافيته، حتى بدأت أزمة من نوع آخر. فقد دخلت زوجته السابقة على الخط، ووفقًا لشهادات مقربين، بدأت تُبعده عن الجميع، من ابنه إلى أصدقائه، وبلغت الأمور حدّ القطيعة مع أقرب الناس إليه.
لم تتوقف عند ذلك، بل تقدمت ببلاغات ضد عدد من المقربين، من بينهم الدكتور نور، زاعمةً استيلاءه على أموال الفنان الكبير، رغم أنه كان من يتحمل نفقات علاجه ويسانده من ماله وجهده.
هذه المزاعم أثارت صدمة في الوسط الفني، خاصةً ممن عرفوا العلاقة التي جمعت الرجلين. لكن نور — بطبيعته الهادئة — التزم الصمت، وترك الكلمة الأخيرة للقضاء.
القضاء يقول كلمته... براءة مشرفة ونهائية
وفي العاشر من يونيو عام 2025، قالت العدالة كلمتها بوضوح:
أصدرت محكمة استئناف القاهرة – إدارة طعون الجنح حكمها النهائي في القضية رقم 13228 لسنة 2024، ببراءة الدكتور نور أسامة مصطفى عبدالعال (نور أبو حساب) من جميع التهم المنسوبة إليه، وألغت الحكم السابق الصادر عن محكمة العجوزة، لتؤكد في منطوق حكمها أن الطعن مقبول شكلًا، وفي الموضوع بإلغاء الحكم والقضاء ببراءته مما أُسند إليه.
بهذا الحكم، طُويت صفحة الاتهامات، وأُعيدت الكرامة إلى صاحبها، ليبقى نور أبو حساب نموذجًا للطبيب الإنسان، الذي وقف بجوار صديقه المريض لا طمعًا ولا مصلحة، بل وفاءً لسنوات من المودة والاحترام.
ريهام... البنت التي أوصى بها المايسترو
وفي خضم تلك الرحلة الطويلة، لم تكن الصداقة مقتصرة على حلمي بكر ونور أبو حساب فحسب، بل امتدت لتشمل قلب طفلة صغيرة أحبّت الدكتور نور كأنه من العائلة.
يقول الدكتور نور: “وصّاني حلمي بكر على بنته ريهام، وكانت في عمر ست أو سبع سنوات، ومن كتر حبها لي قالت إنها تريد أن تصبح طبيبة أسنان مثلي. كانت تزورني في العيادة باستمرار، وتطلب أن تشارك في الورشة الفنية معنا.”
كانت ريهام حلمي بكر تشعر بالانتماء إلى ذلك العالم الذي جمع بين الفن والإنسانية، وكانت زيارتها لوالدها بصحبة الدكتور نور لحظات دافئة ومليئة بالمحبة.
ذلك الوصية الإنسانية من الأب لابنته كانت رسالة تقدير من المايسترو، تعبيرًا عن ثقته في صديقه الذي لم يتخل عنه يومًا، وعن الرابط النقي الذي جمع بين الفن والرحمة.
صداقة تُكتب بالنور
رحل حلمي بكر، وبقيت سيرته تُروى في كل بيتٍ يحب الفن.
لكن خلف إرث الألحان، بقيت حكاية إنسانية تذكّرنا بأن أسمى أنواع الوفاء لا تُكتب بالنغمة فقط، بل بالموقف.
وقفت العدالة إلى جانب الحقيقة، ليبقى الدكتور نور أبو حساب شاهدًا على أن الصداقة الحقيقية لا تموت، وأن في زمنٍ يموج بالخذلان، لا يزال هناك من يحفظ العهد حتى النهاية.