مصر البهية أم طرحة وجلابية !!
يبدو أن الصورة التي التقطت لرجل مصري بجلابيته، ترافقه زوجته بطرحتها البهية أثناء زيارتهما للمتحف المصري الكبير، قد تجاوزت في معناها حدود الواقعة العابرة، لتتحول إلى ظاهرة رمزية تكشف عن توتر عميق في البنية الثقافية والاجتماعية للمجتمع المصري المعاصر، فالانقسام في ردود الفعل بين من رأى في المشهد تجسيدًا للأصالة، وبين من اعتبره "غير لائق" بموقع الحضارة، لا يعكس مجرد اختلاف في الذوق، بل انقسامًا في منظومة القيم والمعاني التي تحدد تصور المصريين لهويتهم الطبقية والثقافية.
في التحليل السوسيولوجي، تمثل الرموز الثقافية - كالزي الشعبي - أحد أهم الوسائط التي تعبر من خلالها الجماعات عن موقعها في الحقل الاجتماعي، الجلابية ليست مجرد لباس، بل علامة على انتماء طبقي وتاريخي ممتد، أما الطرحة فهي أحد وجوه الثقافة الشعبية الأنثوية التي حافظت عبر القرون على التوازن بين الحشمة والجمال، بين الخصوصية والانتماء، ومن ثم فإن السخرية من هذه الرموز أو اعتبارها غير ملائمة لفضاء الحداثة، هو في جوهره تعبير عن نزعة تغريب طبقي تعيد إنتاج التراتبية بين "الراقي" و"البدائي"، بين "المتحضر" و"الشعبي"، في مجتمع كان قد قطع شوطًا بعيدًا نحو المساواة الرمزية خلال الحقبة الناصرية.
فالصورة التي انتشرت ليست مجرد مشهد اجتماعي، بل مرآة لنتائج التحول البنيوي الذي عرفه المجتمع المصري منذ سبعينيات القرن العشرين، مع انهيار مشروع العدالة الاجتماعية وصعود ثقافة الانفتاح والاستهلاك، ففي حين ارتبطت الجلابية تاريخيًا بالعمل والإنتاج والانتماء للأرض، صارت اليوم تقرأ ضمن منظومة قيم جديدة تفصل بين "المظهر الحديث" و"الهوية الشعبية"، لقد أعادت الليبرالية الاقتصادية إنتاج الفوارق الاجتماعية القديمة ولكن في ثوب جديد، فبدل أن يكون الانقسام بين مالك وأجير، أصبح بين من "يستهلك الرموز الحديثة" ومن "لا يملك ثمنها"، أي بين من يتحدث بلسان العولمة ومن ما زال يتحدث بلسان الريف.
تاريخيًا كان المشروع القومي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي يمثل لحظة فريدة في إعادة دمج الطبقات الشعبية في المجال الرمزي والسياسي، فحين جلس الفلاح والعامل في البرلمان بجلبابهما، لم يكن ذلك ديكورًا سياسياً بل إعلانًا عن تحول جذري في بنية الشرعية الاجتماعية، شرعية الكفاءة لا تسبق شرعية الانتماء إلى الوطن، كان الزعيم جمال عبد الناصر يدرك أن الديمقراطية لا تقاس بعدد الأحزاب بل بمدى تمثيلها للبنية الطبقية للأمة، وأن العدالة الاجتماعية ليست فقط في توزيع الثروة، بل في توزيع القيمة الرمزية أيضًا، أن يشعر الفلاح أن جلابيته ليست عيبًا بل عنوان كرامته.
إن ما شهدناه في النقاش حول "أم الطرحة والرجل بالجلباب" ليس سوى عودة إلى الوراء في الوعي الطبقي الجمعي، بفعل عقود من التحول النيوليبرالي الذي جعل المصريين - كما يقول بيير بورديو - يستدمجون معايير النخبة المهيمنة بوصفها معيارًا للذوق والاحترام، وهكذا صار الزي الشعبي دالًا على التخلف، بينما يمنح الزي الغربي هالة "التمدن"، حتى داخل المجال الوطني ذاته، إنها آلية جديدة للهيمنة الرمزية تمارسها الطبقات الوسطى العليا على الطبقات الشعبية، من خلال السيطرة على الفضاء الإعلامي والثقافي، وإعادة تعريف "ما هو لائق" في الخيال الاجتماعي.
من منظور علم الاجتماع السياسي، يمكن قراءة هذه الظاهرة كجزء من تحول الدولة من دولة وطنية ذات مشروع اجتماعي، إلى دولة ليبرالية ذات مشروع طبقي، فالدولة التي كانت تحتفي برمز الفلاح والعامل في خطابها الرسمي، صارت تعيد إنتاج التفاوت الثقافي ذاته الذي كان يفترض بها أن تلغيه، لقد انتقل مركز الشرعية من "المواطن المنتج" إلى "المستهلك"، ومن الكفاءة الاجتماعية إلى الوجاهة الطبقية، وفي ظل هذا التحول، أصبح الدفاع عن رموز الهوية الشعبية ليس مجرد مسألة ثقافية، بل موقفًا سياسيًا ضد مشروع التبعية والتغريب الذي يعمل على تفريغ الشخصية الوطنية من مضمونها الإنتاجي والاجتماعي.
الجلابية إذن - في معناها العميق - ليست تراثًا جامدًا بل رمزًا للمشاركة التاريخية للطبقات الشعبية في بناء الوطن، إنها زي العامل في المصنع، والفلاح في الحقل، والجندي على الجبهة، وحين يحتقر هذا الزي، فإن ما يحتقر فعليًا هو الجهد المنتج ذاته، أي أساس العدالة الاجتماعية التي شكلت ركيزة الفكر القومي في مرحلته الناصرية، فالطرحة بدورها ليست مجرد عادة نسائية، بل رمز لاستمرارية الثقافة الأمومية المصرية التي حافظت على توازنها بين الأصالة والتجدد عبر العصور، قبل أن يهاجمها من يخلطون الحداثة بالاستلاب.
إننا أمام صراع ثقافي ذي طبيعة طبقية واضحة، صراع بين ثقافة الأصالة المنتجة وثقافة الاستهلاك المتغربة، بين مصر التي تعيش في الأسواق الشعبية والحقول، ومصر التي تقيم في الأبراج ومراكز التسوق، وفي هذا الصراع، لا تقف المسألة عند حدود الذوق، بل عند حدود السيادة الرمزية للأمة، هل نملك حق تعريف أنفسنا، أم سنترك هذه المهمة لمعايير مستوردة تفرض علينا صورة "المصري المقبول"؟
لقد أدرك جمال عبد الناصر مبكرًا أن معركة التحرر الوطني لا تنفصل عن معركة الوعي الثقافي، فحين قال إن "الاستعمار يخرج من الأرض لكنه يترك وراءه أفكاره في العقول"، كان يصف بالضبط ما نعيشه اليوم، استعمارًا ناعمًا يسعى إلى تفكيك الهوية عبر السوق والإعلام، لا عبر الجيوش، والذين يسخرون من الجلابية اليوم هم الامتداد المحلي لذلك المشروع، من حيث يدرون أو لا يدرون، لأنهم يرسخون قيم الهيمنة الثقافية للغرب في نسيج المجتمع المصري.
إن الصورة التي انتشرت للرجل وامرأته ليست مجرد مشهد حنين إلى الماضي، بل لحظة استعادة رمزية لجوهر الهوية الوطنية المصرية، الهوية التي تتسع للحداثة دون أن تتبرأ من جذورها، والتي ترى في البساطة شرفًا لا عيبًا، وفي العمل قيمة لا منقصة، إنها صورة مصر الحقيقية التي ما زالت تنبض في القرى، والمصانع، ووجوه الكادحين، رغم كل ما تراكم من اغتراب واستلاب.
وإذا كان علم الاجتماع يعلمنا أن الهويات لا تموت بل تقمع ثم تعود في لحظات التحول، فإن عودة "أم الطرحة والرجل بالجلباب" إلى قلب المشهد العام هي مؤشر على نهوض جديد للوعي الشعبي المقاوم للتغريب، ذلك الوعي الذي قد يشكل قاعدة لإحياء المشروع القومي على أسسٍ اجتماعية وثقافية جديدة، أكثر إدراكًا للبعد الرمزي في معركة الاستقلال، فمصر التي نريدها ليست مصر الأبراج الزجاجية ولا المدن المسورة، بل مصر الإنسان العامل والفلاح والمثقف المنتمي، مصر التي لا تخجل من جلابيتها ولا طرحتها، لأنها تعرف أن البهاء الحقيقي لا يقاس بالمظهر بل بالجوهر، ولا بالماركات بل بالكرامة، ولتبق مصر، رغم كل محاولات المسخ والتغريب، بهية أم طرحة وجلابية، كما أرادها عبد الناصر وطنًا للكرامة والعدالة، اللهم بلغت اللهم فاشهد.









