”في عينيا”:التوحد بين الفيلم والواقع
بقلم: فاتن فرادي الجورنالجي
,"في عينيا" فيلم تونسي من إخراج نجيب بلقاضي يعرض حاليا في قاعات السينما التونسية وينال إعجابا متزايدا من قبل الجمهور
وقد أثار ضجّة في الوسط السينمائي حتى من قبل عرضه في القاعات. تم اختياره ضمن القائمة الرسمية للأفلام المشاركة في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي (6 - 16 سبتمبر 2018) وكان من الأفلام الروائية الطويلة المتنافسة على جوائز "تانيت الروائي الطويل في الدورة 29لأيام قرطاج السينمائية (3-10 نوفمبر 2018). كما سيشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش ( 30 نوفمبر إلى 8 ديسمبر).
لماذا حقّق هذا الفيلم هذا النجاح الجماهيري الكبير؟ الأسباب تتعدد لكن من بينها أنه يتناول ظاهرة التوحد وهو موضوع لم يتم التطرق إليه سينمائيا في تونس من قبل وكان التناول الدرامي لهذا الاظطراب الذي يمس بالنمو العصبي ويؤدي إلى صعوبة التفاعل والتواصل مع الآخرين فريدا من نوعه.
يعرف اضطراب التوحد بأنّه "حالة من القصور المزمن في النمو العصبي للطفل يتميّز بانحراف وتأخر في تطور الوظائف المرتبطة بالمهارات الاجتماعية واللغوية، وتشمل الانتباه، والإدراك الحسي، و الحركة. ولم يتم تحديد الأسباب الدقيقة لهذا الاضطراب بعد.
لا يحظى المتوحدون في أغلب البلدان العربية بالعناية والإحاطة الضروريتين. إذ تعاني معظم المجتمعات العربية من عدم وجود عدد كاف من المتخرجين والعاملين المؤهلين للتعامل مع التوحد ومشكلة في التشخيص والعلاج هذا بالإضافة إلى نقص في وعي العائلات باضطراب التوحد مع وجود حالات عديدة من الإنكار والخجل من بسبب وجود متوحد داخلها .
أمّا في تونس حيث لا توجد إحصائيات رسمية حول عدد الأشخاص المصابين بالتوحد الذين يمثلون 1% تقريبا وفق ما صرحت به السيدة سميرة الغول
مؤسسة جمعية "الفرات"، فإن البلاد تفتقر إلى البنية التحتية الضرورية للإحاطة بالمتوحدين وتأهيلهم. و لعلّ أحداث فبراير 2018 تدل عى ذلك إذ شغلت فضيحة مركز خاص بالمتوحدين بأريانة الرأي العام إثر نشر فيديو يصور تعنيف أطفال متوحدين من قبل المعلمة
وهو ما يثير إشكال عدم توفر المراكز والكوادر المختصّة للإحاطة بالمتوحّدين ومساعدتهم على تحسين قدراتهم.
كان بإمكان نجيب بلقاضي أن ينطلق من هذه القضية التي شغلت الرأي العام التونسي ولكنه نأى عن الإثارة و تناول الموضوع من جانب آخر لا يقل أهمية، لا بل لعلّه الأهم بالنسبة للمتوحّد ألا وهو العلاقة التي تربطه بالوالد أو الوالدة، علاقة معقّدة، لابد من التأسيس لها بمهارة كي تساهم في التطور الإيجابي لحالته .
فالفيلم يروي قصة تونسي مهاجر في فرنسا يضطر إلى العودة مؤقتا إلى تونس إثر دخول الزوجة في غيبوبة وذلك ليجد حلّا لابنه المتوحد الذي هجره صغيرا ولم يره منذ حوالي سبعة سنوات. يرتكز الخط السردي للفيلم على العلاقة بين الأب "لطفي" وابنه "يوسف"، علاقة منعدمة أوّلا فمتشنّجة لأن لطفي لا يعرف شيئا عن ابنه وعن طريقة التعامل مع حالته ولأنه يودّ إيجاد حلّ له والعودة إلى فرنسا حيث ترك حبيبته الحامل منه. ثم تتطوّر العلاقة وتنشأ شراكة بين الأب والابن ويحملنا الفيلم معه في رحلة حالمة من المشاعر والحركات المؤثّرة كإعداد لطفي (الأب) لسلك علّق فوقه مصباحين كهربائيين كي يجعل ابنه ينظر إليه. وهذا يذكرنا بالعنوان الرائع للفيلم "في عينيا" ويمكن إسناد معنيين إليه باللهجة التونسية، الأوّل و الأهمّ "انظر إليّ " كما هي الترجمة الفرنسية للعنوان أمّا الثاني فالمقصود منه أنه يعتنى أحد بشخص بكلّ حرص وحنان وهو ما بات يفعله لطفي مع ابنه.
ومن المعروف أنه من الصعب على الأشخاص الذين يعانون من التوحد النظر إلى الآخرين في أعينهم. وكان الأب يبحث عن هاته النظرة ولو حصل عليها بحيلة وكان يبحث عن لحظات حنان وقد نالها وأحسّ به من خلال لمسة حنونة من ابنه. لقطات تصويرية جميلة ومعبّرة زادت من الشحنة العاطفية للفيلم (close-ups , details).
يطرح الفيلم كذلك مسألة محورية بالنسبة لاضطراب التوحد وهي مدى نجاعة المراكز المتخصصة فقد رفض الأب أن يعيد ابنه إلى المركز الذي كان يرتاده إثر زيارته ونراه في لقطة معبّرة ، يقول لخالة الطفل أنّ حالته تتحسن معه وأن علاقة بين الأب والابن قد ولدت.
ويندرج في هذا الإطار النقاش حول كيفية إدماج المتوحدين في المجتمع. فهل وضعهم في مراكز خاصة بهم وسيلة لإدماجهم في المجتمع بمحاولة تحسين قدراتهم وسلوكهم أم هو يتسبب بالأحرى في تعميق عزلتهم؟ هل من الأفضل إدماجهم في مدارس يرتادها أطفال غير مصابين بالتوحد مع توفير الإحاطة الضرورية لهم؟
يتطرّق "في عينيا" بطريقة عرضية دون أن تكون سطحية إلى قضايا اجتماعية أخرى كنظرة المجتمع للمرأة التونسية التي تعيش مع رجل خارج إطار الزواج ولا سيّما إن كان أجنبيّا. وهو حال خديجة ، الخالة المحبّة للطفل يوسف. ونرى في أول لقطات الفيلم كيف يتمّ تهديدها بشرطة الآداب لافتكاك يوسف مها منها وتسليمه لوالده. كما يشير الفيلم إلى حالة متفشيّة بالنسبة للمهاجرين التونسيين و هي إهمال بعضهم لعائلاتهم الموجودة في تونس دون تسوية وضعيّاتهم الزوجية. هذه الوضعيّات تضرّ بالمرأة التي تتحمّل أعباء العائلة في غياب الرجل الذي كثيرا ما يؤسس لحياة أخرى مع امرأة أخرى في الخارج. هذا حال لطفي، صاحب محلّ لبيع آلات منزلية بمرسيليا، الأب الذي أهمل زوجته وابنه لمدة 7 سنوات وأسّس لحياة مع حبيبة فرنسية في مرسيليا وهي حامل منه. ظلّت زوجته في تونس تعتني بالطفل لوحدها و تمكّنت على الأقلّ من بناء علاقة مع رجل "بسّام" أحبّها وأحبّ ابنها.
ينتهي الفيلم بالأمل، فقد تحسّنت حالة يوسف لدرجة أنه تمكّن من استعمال الكاميرا التي اشتراها والده لتوثيق تطوّر علاقته به وصوّره هو.
كما نشأت علاقة وطيدة بين الابن والوالد الذي بعد أن كان يريد أن يتخلص منه وأن يضعه في مركز يعتني به، قرّر أن يأخذه معه.
رسالة الفيلم هي رسالة أمل،رسالة حبّ تجاه من يعاني من التوحّد و تأكيد لحقّهم في العيش داخل المجتمع باختلاف كما أكّد ذلك المخرج نجيب بالقاضي.