كيف يصنع أستاذاً جامعياً جاهلاً ؟!
بقلم : الدكتور محمد سيد أحمد الجورنالجيفي إطار سلسلة المقالات التي بدأنا في كتابتها منذ الأسبوع الماضي عن أحوال التعليم العالي والبحث العلمي في مصر، والتي أفردنا لها المقال الأول بعنوان فوضى منح الدرجات العلمية، والذي ألقى بحجر في المياه الراكدة، وآثار العديد من ردود الأفعال سواء المؤيدة أوالمعارضة، وبالطبع نتفهم أن المؤيدون لوجهة نظرنا وهم قلة مشجعة على الاستمرار في حملة مكافحة الفساد الذي استشرى في هذه المنظومة الجامعية هم النابهون والمجتهدون الذين عانوا ودفعوا ثمن تفوقهم ونبوغهم، والأغلبية المعارضة التي هاجمت المقال هم شركاء في منظومة الفساد حيث استشعروا أن المقال يمسهم بطريقه أو بأخرى ويفضح فسادهم ويكشف عوراتهم، لذلك قررت الاستمرار في طريق كشف الحقيقة وإسقاط الأقنعة المزيفة والقدسية الوهمية عن هذه المنظومة الجامعية التي يعتقد الكثيرون أنها أبعد ما تكون عن منظومة القيم الفاسدة التي انتشرت في المجتمع المصري منذ مطلع السبعينيات وحتى الآن، وهي قيم الانفتاح على النظام الرأسمالي الفاشي المنحط.
وكنا قد وقفنا في مقال الأسبوع الماضي عند الحصول على الدرجة العلمية ( ماجستير – دكتوراه) بطريقة غير مشروعة فلا الطالب تعلم ولا الأستاذ أشرف ووجه، والنتيجة النهائية حصول الطالب على الدرجة العلمية بأعلى تقدير ( ممتاز ) دون وجه حق، وأصبح الحصول على الدرجة لا يفرق بين المجتهد وغير المجتهد، وأصبحنا في حاجة إلى إعادة تقييم للحاصلين على هذه الدرجات العلمية للتعرف على مستواهم العلمي الحقيقي، لأن التقدير لم يعد معبراً عن المستوى الحقيقي والواقعي للطلاب في ظل فوضى منح الدرجات العلمية التي تنتج في الغالب جاهلون في تمثيلية هزلية يديرها أساتذة مشرفون لا يقرأون ما يكتبه طلابهم ولا يقومون بأدوارهم المنوطة بهم في عملية التوجيه والإرشاد الأكاديمي.
واليوم نتحدث ومن واقع تجربتنا التي تجاوزت الثلاثون عاماً في مجال الاحتكاك المباشر بمنظومة التعليم العالي والبحث العلمي، وسوف أقدم تشخيصاً واقعياً مدعوماً بنماذج شاهدتها بعيني، ولدي من الوثائق والمستندات التي تجعل حديثي ليس مرسلاً ولا من الخيال، فبعد حصول الطالب على درجة الدكتوراه يعين عضو هيئة تدريس بالجامعة، وهنا يبدأ فصل جديد من فصول المهزلة حيث يصبح مطلوباً منه لمواصلة الطريق والحصول على درجة الأستاذية عمل مجموعة من البحوث المبتكرة في مجال تخصصه ويجب أن تضيف هذه البحوث جديداً للمعرفة العلمية المتوفرة، وبما أن غالبية هؤلاء قد حصلوا على درجتي الماجستير والدكتوراه دون اكتساب الحد الأدنى من معرفة واستيعاب أساسيات البحث العلمي ( نظرية – منهج) فإن عملية إجراء البحوث تصبح بالنسبة لهم عسيرة وشاقة بل ومستحيلة.
وهنا تبدأ عملية البحث عن البدائل فهناك من يقرر الاكتفاء بما حصل عليه والتحول لموظف يقوم بتلقين الطلاب من خلال المحاضرات بعض الدروس في مجال تخصصه دون وعي أو فهم ويكتفي بالحصول على راتبه من الجامعة في أول كل شهر، أما البديل الثاني فهو من يقرر الترقي عن طريق البحث عن أشخاص أصبحوا متخصصين في إجراء البحوث وهم معروفون بالاسم في كل تخصص، ومنهم من فتح مكاتب متخصصة لمثل هذا العمل غير المشروع واصبح بعضهم يتصف ببجاحه ووقاحة في ظل غياب الرقابة حيث يعلنون عن بضاعتهم الفاسدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أما البديل الثالث فهو من يقرر الترقي لكنه ليس مستعد لدفع جنيهاً واحداً لمثل هؤلاء السماسرة الذين يقدمون البحوث معلبة للراغبين في الترقي وهؤلاء يحاولون إجراء البحوث بأنفسهم عن طريق السرقات العلمية وهم يعلمون أن الأساتذة المحكمون لا يقرأون وبالتالي ستمر سرقتهم بسلام.
وننتقل بعد ذلك إلى المجلات العلمية التي ستنشر بها هذه البحوث، ويمكنني أن أقول وبقلب وضمير مستريح أن غالبية المجلات المتخصصة في مصر لا يهمها إلا ما سيدفعه الباحث مقابل عملية النشر، فعملية التحكيم وهمية وتتعلق بالعلاقات الشخصية فالباحث الذي يمتلك شبكة جيدة من العلاقات مع مسؤولي التحرير في هذه المجلات يمكنه بسهولة نشر بحثه دون أي ملاحظات أو تعديلات، وبعد إنجاز عملية النشر ننتقل للخطوة الأهم وهي التقدم إلى لجنة الترقيات، وهنا حدث ولا حرج نفس الأساتذة الذين يمنحون الدرجات العلمية دون إشراف أو توجيه حقيقي هم المسيطرون على هذه اللجان، وبالطبع ينتقل فسادهم في منح الدرجات العلمية ( ماجستير – دكتوراه) إلى منح نفس الطلاب درجتي ( أستاذ مساعد – أستاذ) لكن هذه المرة بطريقه أكثر فجاجة فالبحوث ومستواها العلمي آخر ما ينظر إليه، وإنما العلاقة بأعضاء اللجنة وحجم المنح والهدايا والعزومات والرشاوى خاصة للأعضاء المؤثرين داخل اللجنة هو الفيصل الأول في عملية الترقي، لذلك لا عجب أن تجد أعضاء اللجان - العلمية – مدعوون كل يوم لمناقشة رسالة أو حضور ندوة أو مؤتمر أو سيمنار يكون الهدف منه توطيد علاقة الباحثين عن الترقي بأعضاء اللجان وخلال هذه الفعاليات تقدم الرشاوى تحت مسميات مختلفة أهمها الهدايا.
وهكذا يصنع الأستاذ الجامعي الجاهل، في الوقت الذي يلقى فيه الجادون والمجتهدون عقاب شديد من قبل المنظومة الفاسدة، حيث يحارب البعض حتى لا يقدم على عملية الترقي، وكم من نابه ومتفوق أصيب بالإحباط وأحجم عن التقدم لمثل هذه اللجان، والبعض من الشجعان الذين تقدموا لاقوا عسف شديد ومحاولة لإجهاض محاولاتهم، ولم يفلت منهم إلا قليل جداً من الذين استطاعوا إرهاب أعضاء اللجنة عبر محاولة فضحهم فتمت ترقيتهم المستحقة وعن جدارة رغماً عن أنف الفاسدين، لأن عدم ترقيتهم كانت ستترك صدى هائل قد يعصف بأعضاء اللجنة خاصة إذا كان الإنتاج العلمي لهؤلاء النابهين والمجتهدين معروف للكافة، هذا فصل من فصول مهزلة إعادة إنتاج الجهل، وللحديث بقية، اللهم بلغت اللهم فاشهد.